الجبرتي- رؤى في الاستعمار والاستبداد الحديث في مصر

في العصر الحديث، برزت لنا ظاهرتان ملازمتان ومستمرتان عبر الزمن، بأوجه متعددة وهما: الاستعمار الجديد والاستبداد الحديث. يمثل الاستعمار الإطار الأشمل للنظامين الإقليمي والعالمي، وقد ترك بصمات واضحة على تأسيس الدولة الحديثة في عالمنا العربي. هذه الدولة، بطبيعتها، سلطوية واستبدادية، وإن اختلفت أشكال استبدادها ومصادرها ونطاقها وأهدافها عن الاستبداد الذي عرفته بلادنا في العصور السابقة.
مع بداية القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، بدأنا نشهد الاستعمار الأوروبي بعد انتهاء الحروب الصليبية في أواخر القرن الثالث عشر. تفصل بين هاتين الغزوتين الشاملتين خمسة قرون. ففي المرة الأولى، غزت أوروبا المسيحية الشرق بأكمله تحت راية الصليب، وفي المرة الثانية، غزت أوروبا الحديثة الشرق في ظل التنافس الاستعماري المحموم.
في العصور الوسطى، كان لنا التفوق والسيادة، بينما كانت أوروبا تعيش في عزلة وانقسام. كان ملوكها لا يمتلكون سلطة تتجاوز عواصمهم، وشعوبها منقسمة بين نبلاء إقطاعيين متناحرين، وفلاحين خاضعين لهم كالعبيد. كانت أوروبا مجرد مزرعة بدائية يعيش فيها قلة من الأسياد وكثرة من الأقنان.
تفوق الشرق
كان الشرق العربي والإسلامي مركزًا للتفكير والقرار والفعل في ذلك العالم القديم، قبل اكتشاف الأمريكتين وأستراليا. امتلك هذا الشرق مصادر الثروة والازدهار، حيث كان الاقتصاد العالمي بين يديه يتحكم فيه كيفما يشاء. سيطر على التجارة بين الشرق والغرب والشمال والجنوب، وكانت طرق التجارة بأكملها تحت هيمنته: البحر الأبيض المتوسط، البحر الأحمر، طريق السويس البري، الخليج العربي، طريق البصرة-دمشق البري، خليج عدن، المحيط الهندي، وتجارة آسيا وأفريقيا وأوروبا مجتمعة.
أمام أوروبا خياران: إما أن تبقى حبيسة داخلها بعيدة عن البحار والتجارة والرفاهية، أو أن تتاجر ولكن بشروط الشرق. ومن يخالف هذه الشروط يقع في قبضة الشرق، ويكون مصيره الاسترقاق أو الفداء. كانت مشاهد الأسرى المكبلين الذين ينتظرون مصيرهم تعكس اختلال ميزان القوة لصالح الشرق على حساب الغرب.
كان الشرق في موقع قوة ونصر، كما لو كان هذا قدرًا محتومًا من أقدار الطبيعة، كالليل والنهار، والظلام والنور، والشتاء والصيف. بينما كان الغرب يعيش حالة من الضعف والانكسار، لكنه أدرك هذا الاختلال وسعى جاهدًا لتغيير هذه المعادلة. بعد كفاح استمر خمسة قرون، تمكن الغرب من أن يحل محل الشرق، ليصبح هو المنتصر في انتصار بدا وكأنه قانون طبيعي أزلي.
لقد سلك الغرب مسارًا معاكسًا تمامًا لمسارنا. عندما كان ضعيفًا في العصور الوسطى، كنا نحن الأقوياء. وعندما امتلك القوة في العصور الحديثة، أصبحنا نحن في موقف ضعف. وأصبح الغرب حريصًا على ترسيخ هذا الوضع، بحيث يزداد قوة وتفوقًا، بينما ننتقل نحن من ضعف إلى ضعف ومن خضوع إلى خضوع، حتى نصل إلى حافة الاضمحلال.
استعمار جديد
المعركة التاريخية الكبرى مستمرة من وجهة نظر الغرب، ولم تتوقف ولن تتوقف منذ حوالي ألف وخمسمائة عام. الخمسمائة عام الأولى كانت لنا بشكل حاسم وواضح، وانتهت ببدء الحروب الصليبية. الخمسمائة عام الثانية كانت شراكة وتبادلًا في النفوذ والقوة بيننا وبينهم، بدأت باستعادة مدن الشرق من أيدي الصليبيين، وانتهت بإخراج المسلمين من إسبانيا والبرتغال وبدء الاكتشافات الجغرافية.
أما الخمسمائة عام الثالثة والأخيرة، ففي القرنين الأولين منها كان العثمانيون يدكون شرق ووسط أوروبا، بينما كان الغرب يطوق العالم الإسلامي من أطرافه ويخترق قلبه وينتزع منه السيطرة على مصادر الثروة وخيرات التجارة والسيادة على البحار. ثم في القرون الثلاثة الأخيرة، تفككت القوة العثمانية تدريجيًا، وفقد العالم الإسلامي مناعته الذاتية، وسقطت كل مقاومة محلية. لم يكد القرن التاسع عشر ينتهي حتى كانت أوروبا سيدة المسلمين بين المحيطين الهندي والأطلسي، وفقد المسلمون السيطرة الكاملة على مقاليد أمورهم الذاتية، وليس فقط السيطرة على البحار وتجارة العالم.
وما كاد القرن العشرون ينتصف حتى خرج الاستعمار القديم -أي أوروبا- ليحل محله الاستعمار الجديد -أي أمريكا- مع تأسيس إسرائيل في قلب العالم الإسلامي في فلسطين المباركة. ثم لم يكد القرن ذاته يصل إلى نهايته حتى كان المسلمون جميعًا خاضعين لنظام دولي ليس لهم فيه من الأمر شيء إلا الاعتراف بأمريكا سيدة للغرب وللعالم ومعها إسرائيل الحصن المسلح في المنطقة بتفوق يفوق المنطقة بأسرها عدة مرات.
صراع غير متوازن
كان عبدالرحمن الجبرتي (1753-1825) على وعي كامل بما أحدثته الحداثة من غلبة الاستعمار وتسلط الدولة الحديثة على رقابنا.
كان يعلم بتفوق الفرنسيين في القوة العسكرية ونظم الحكم والإدارة المدنية والتشريعات، وأدرك أن ذلك يكشف نقاط ضعفنا، وأن تفوقهم مع ضعفنا سيؤدي إلى تاريخ جديد ومختلف عن كل ما سبقه. كان يعي تمامًا أن اللقاء ليس بين مسلمين وكفار، ولا بين غزاة ومجاهدين، بل هو لقاء غير متوازن بين حضارتين: حضارة إسلامية في طور الأفول، وحضارة أوروبية في طور الصعود.
وهذا يفسر ما قد يبدو تناقضًا في مواقفه من الفرنسيين. فقد قبل عضوية الديوان الذي أسسوه لحكم البلاد، ولم يشارك فعليًا في الحراك الثوري ضدهم، وذمهم في كتابه "مظاهر التقديس في خروج الفرَنْسيس"، ووازن مواقفه منهم في كتابه "عجائب الآثار في التراجم والأخبار". هذه لم تكن تناقضات بقدر ما كانت محاولات لفهم الأحداث الجسيمة التي ألمت بالشرق.
كان الجبرتي على إدراك أن الحراك الثوري الشعبي بكل قوته وما أحدثه من إزعاج للفرنسيين لن يختلف في نتائجه عما يمكن أن يقدمه المماليك من جهد لإخراج الفرنسيين. وكان يعي أن السلطنة العثمانية -بجلال قدرها- لا تختلف عن حال الثورات الشعبية ولا عن حال المماليك، وأن الثلاثة -الشعب والمماليك والسلطان- أعجز من أن يخرجوا الفرنسيين من مصر دون دعم الإنجليز. كان على وعي بأن مقاليد أمورنا قد خرجت من أيدينا، وأن الأمر صراع بين أوروبا وأوروبا على امتلاك العالم. فرنسا سبقت بريطانيا إلى مصر لتتحكم في طرق التجارة بين الشرق والغرب، ثم لم تدخر بريطانيا جهدًا في إخراجها من مصر، وحرضت من استطاعت من الشعب والمماليك والسلطان حتى نجحت في هدفها، أي السيطرة على طرق التجارة مع الشرق، ووراثة تفوق المسلمين في السيادة على البحار.
ملفان شائكان
بهذا الوعي العميق والذكاء الفائق، غيّر الجبرتي وجهته ومنهجه في كتابة التاريخ. فبعد أن كانت وجهته كتابة تاريخ القرن الثاني عشر الهجري، أصبحت كتابة تاريخ مصر في أحلك فتراتها من أواخر القرن السابع عشر حتى العشرين عامًا الأولى من القرن التاسع عشر، أي في حدود 135 عامًا، شهدت انفراد البيوت المملوكية بالحكم الفعلي لمصر دون العثمانيين، ثم دولة علي بك الكبير، ثم دولة الحكم الثنائي بين إبراهيم بك ومراد بك، ثم دولة الفرنسيين، ثم دولة محمد علي باشا.
الجبرتي -بمفرده- هو المؤسس الحقيقي للثقافة المصرية الحديثة، لأنه بحكمته العميقة فتح ملفين شائكين يحكمان حياتنا حتى اليوم والغد: ملف التفوق الغربي، وملف الدولة التسلطية الحديثة.
وقد خصص لكل من الملفين مجلدًا مستقلاً في كتابه، الثالث للفرنسيين، والرابع لدولة محمد علي باشا.
في بداية حديثه عن قدوم الفرنسيين في تدوينه لأحداث عام 1213 هجرية (1798م)، كتب يقول: "وهي أول سني الملاحم العظيمة، والكوارث الجسيمة، والوقائع النازلة، والنوازل الهائلة، وتضاعف الشرور، وترادف الأمور، وتوالي المحن، واضطراب الزمن، وانعكاس المطبوع، وانقلاب الوضع، وتتابع الأهوال، واختلاف الأحوال، وفساد التدبير، وحصول التدمير، وتفشي الخراب، وتوالي الأسباب".
يمكننا أن نتخيل ما فعلته أوروبا والغرب بنا منذ ذلك اليوم في صيف 1798م حتى تأسيس الدولة الصهيونية في منتصف القرن العشرين، وحتى الإجماع على إبادة آخر مقاومة ذاتية في فلسطين المحتلة في خريف 2023 وشتاء 2024 م. ويمكننا أن نتأمل كيف سيكون الحال في نهاية القرن الحالي (2100م) في ظل الهجمة الشرسة للغرب وتواطؤ الحكومات في الشرق العربي والإسلامي.
معارضة دون ضجيج
كما خصص الجبرتي المجلد الرابع والأخير لدولة الاستبداد الحديث التي أسسها محمد علي باشا، واستمرت ذريته من بعده في الحفاظ على طابعها الاستبدادي، ثم الرؤساء من ضباط الجيش في العهد الجمهوري. لم يكن الجبرتي بثورية بعض أبناء جيله مثل عمر مكرم، ولكنه امتلك عقلًا ثوريًا وبصيرة نافذة وفكرًا قويمًا مع طبع أرستقراطي ينفر من الغوغاء والعوام والشعبوية والاندفاع المفرط دون أساس.
قبل عضوية الديوان الفرنسي دون سعي منه، واتخذ موقفًا واضحًا من مظالم محمد علي باشا، مؤسسًا لمعارضة وطنية ذات هدف نبيل دون صخب أو ضجيج. لم يكن جزءًا من التنافس على إرضاء الفرنسيين والانتفاع منهم، ولا التقرب للباشا الجديد والتربح من ورائه.
في تدوينه لأحداث 1221 هجرية (1806-1807م)، يقول: "استهل شهر المحرم بيوم الخميس حسابًا، ويوم السبت هلالًا، ووافق ذلك انتقال الشمس لبرج الحمل، فاتحدت السنة الشمسية والقمرية". ثم يقرأ طوالع النجوم، ويتنبأ بنبوءة صادقة، فيقول: "وهو دليل على ثبات دولة القائم وتعب الرعية والحكم لله العلي الكبير".
قبل ذلك، لم يكن الاستقرار سمة مميزة للحكم والحكام في مصر. ولكن بعد ذلك، أصبح الاستقرار هو الطابع الأساسي حتى يومنا هذا. فقد تحدى محمد علي باشا كل التوقعات إلا نبوءة الجبرتي، حيث حكم الباشا نصف قرن، ثم حكمت ذريته من بعده قرنًا آخر، وعانت الرعية في العهدين. كذلك، حصل في دولة ضباط الجيش، حيث حكم عبد الناصر حتى وفاته، وكذلك السادات، ثم مبارك الذي حكم ثلث قرن، وكذلك دولة 30 يونيو 2013م التي خالفت كل التوقعات.
هذه الدولة الحديثة، منذ عهد الباشا حتى الجمهورية الجديدة، اكتسبت قدرات قمعية هائلة لم تكن موجودة من قبل. هذه القدرات تضمن للحاكم البقاء في السلطة وفقًا لشروطه لأطول فترة ممكنة، إلا إذا أزاحه الغرب بنفسه أو سمح بإزاحته. فتوافق الحاكم مع إرادة الغرب يضمن له البقاء ويكفل له قهر خصومه ومنافسيه ومعارضيه بقوة واقتدار.
كيف فتح الجبرتي صراعًا ثقافيًا على جبهتي الاستعمار والاستبداد؟
هذا ما سنتناوله في مقالنا القادم بمشيئة الله تعالى.
